رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الإسلام الحركي بشقيه الجهادي والسياسي كان أكبر ضحايا الربيع العربي على الصعيد الإيديولوجي، فقد أصبح الجهاد لأول مرة ربما في تاريخ الإسلام الحديث مرادفاً للإرهاب على نطاق واسع، ليس فقط في الخطاب الإسلاموفوبي المعادي للإسلام، بل أيضاً لدى عامة المسلمين والعرب الذين باتوا يعتبرون الجهاديين متطرفين إرهابيين مندسين بامتياز لم يسيئوا فقط للثورات، بل أضرّوا كثيراً بصورة الدين الإسلامي نفسه إلى حد كبير، وجعلوه مرادفاً للإرهاب في الخطاب الإعلامي العالمي. أنت مسلم إذاً أنت إرهابي، ناهيك، والأهم، تكريس الانطباع الأبشع وهو وضع هذا التيار بتصرف وخدمة مصلحة الكبار، ودوره في تدمير وإنهاك أكثر من بلد عربي. واكتشفنا أخيراً أنه في اللحظة التي ظهرت فيها فصائل جهادية تحمل أسماء إسلامية ودخلت على خط الثورات، أيقنا أنها جاءت لإفشال الثوارت، وتلميع الطغاة وإعادة الشعوب إلى زريبة الطاعة.
فكيف ينظر السواد الأعظم من العرب والمسلمين لداعش وأخواتها كجبهة النصرة (جبهة تحرير الشام) وغيرها من الفصائل التي تتخذ لنفسها أسماء إسلامية تاريخية؟ كم عدد المؤيدين لتلك الحركات بعد أن ذاب الثلج وبان المرج؟ ألم يفقد الجهاديون أي شعبية كانوا يتمتعون بها لدى بعض المغفلين؟ لقد بات الكثيرون الآن يربطون الحركات الإسلامية المقاتلة بأجهزة المخابرات العربية والدولية. وإذا جاءك جهادي وقال لك إنه يجاهد في سبيل الله، فلا بد أن تسأله فوراً: "إلى أي فرع استخبارات تنتمي يا رعاك الله؟" صار الجميع يضع ألف إشارة استفهام على أي جماعة تحمل اسماً إسلامياً كتلك التي ظهرت في سوريا والعراق. لقد سقط القناع تماماً عن الإسلام الجهادي، وبات العرب والمسلمون المشككون بالحركات الجهادية أكثر من الغربيين المعادين للظاهرة الإسلامية عموماً. ولو سألت الكثيرين الآن عن الدور الذي لعبته الجماعات الإسلامية في الثورات العربية لقالوا لك: "إنها أفسدت الثورات وخربتها وألـّبت العالم عليها وجعلتها تبدو في عيون الغالبية العظمى على أنها حركات إرهابية متطرفة أكثر منها حركات شعبية مطلبية.
لا شك أن هناك أقلية مازالت تعتبر تلك الجماعات الرد الطبيعي المناسب على أنظمة الظلم والطغيان العربية التابعة للغرب، لكن هؤلاء باتوا قلة قليلة ولم يعودوا قادرين أن يقنعوا أحداً بهذا الطرح السخيف في مواقع التواصل الاجتماعي. وقد ذهب البعض أبعد من ذلك ليعتبر الجماعات الجهادية جماعات مرتزقة تعمل لصالح دول وأجهزة مقابل المال. وفي استفتاء طرحناه على "توتير" عن رأي الشارع بالجهاديين، اعتبر حوالي خمسة وخمسين بالمائة من المصوتين أن الجهاديين الحقيقيين مجرد مغفلين ملعوب بعقولهم، بينما يعمل قادتهم كعملاء لصالح دول وأجهزة استخبارات إقليمية وعالمية، بينما اعتبر أكثر من سبعة عشر بالمائة أن الجهاديين المزعومين مجرد أدوات يستخدمونها لتحقيق أهداف قذرة ثم يرمونها في مزبلة التاريخ. باختصار، لا يمكن الحديث أصلاً عن حركات إسلامية، لأن تلك الحركات، وخاصة الجهادية، كما أثبتت السنوات الماضية، هي صناعة مخابراتية أصلاً أو بالأحرى خازوق مخابراتي لكل من طالب بالتغيير في منطقتنا المنكوبة، ولا علاقة لها بالإسلام مطلقاً. وربما كان هذا التصنيع المخابراتي للجماعات الإسلامية ضربة استباقية لأية محاولة صادقة لتشكيل جماعات إسلامية وطنية حقيقية فيما لو انطلقت لاحقاً.
وقد أدى فشل الحركات الإسلامية المقاتلة في إطار الثورات العربية وانهيارها وهزيمتها العسكرية المُرة، وهو الأخطر تنظيمياً ووجودياً ربما، إذ يبدو بالمحصلة كتآكل إيديولوجي مرير وخفوت لوهج الفكر وأصوله الأسطورية وقيمته التراثية، وما لذلك من أثر على شرعية ومستقبل جهادها ونضالها من الأساس، إلى الإساءة كثيراً لمفهوم الإسلام السياسي بشكل عام، فقد انعكست وحشية وقذارة وانحطاط وعمالة تلك الحركات الجهادية على الحركات الإسلامية السياسية المعتدلة، بحيث بات كثيرون لا يفرّقون بين الدواعش وأي حركة إسلامية أخرى. لم يعد الإسلام هو الحل حتى بالنسبة للذين كانوا يصفقون للإسلام السياسي وضرورة انخراط الإسلاميين في الحياة السياسية، بل صار الإسلام السياسي مشكلة بحد ذاته تسيء للعمل السياسي وتلوثه، حسبما يرى خصوم الإسلاميين.
صحيح أن الأحزاب التي تحكم زوراً وبهتاناً باسم العلمانية في العالم العربي هي أحزاب شبه عسكرية وميليشياوية قذرة يديرها ويشرف عليها "شوية" شراذم من برابرة وعصابات وزعران ومافيات وجنرالات فاشيست وأجهزة أمن قمعية منحطة باطشة وخارجة عن القانون، ليست البديل الأفضل للحركات الإسلامية، لكنها تبقى الخيار المفضل لضباع العالم وكلابه ولجزء لا يستهان به من المجتمعات العربية التي كفرت بالمتاجرين بالدين. لكن هذا لا يعني أن تقبل الشعوب بحكم الجنرالات نكاية بالإسلاميين، فهل بات مكتوباً علينا كعرب أن نبقى بين سندان الخليفة ومطرقة الجنرال؟ أليس هناك بديل مدني حضاري كما هو الوضع في معظم بلاد العالم بعيداً عن عمامة الإمام وبسطار الماريشال؟
استطراداً، وفي الخلاصة هل كان الربيع العربي مصيدة وفخاً للإسلاميين بآن واحد، وضربت به القوى الكبرى التي وظفتهم وجندتهم، عصفورين بحجر واحد، الأولى تدميرهم والتخلص منهم وتدمير صورتهم، والثانية نشر الفوضى الهلاكة وتدمير الأنظمة المستهدفة في عملية بناء ورسم خريطة الشرق الأوسط الجديد؟
وماذا لو حاولت اليوم بعض الجماعات والتيارات المتأسلمة إطلاق شرارة حراك وثورة، ومطالب تغيير، بعد هذا العراك والمخاض العسير، وتبني قضايا وطنية كالديمقراطية، كم ستجد من المؤيدين والأتباع؟ وكيف ستقنع الشارع بشرعيتها وأحقيتها بعد سلسلة الانهيارات والهزائم المزلزلة والمجلجة وانهيار مصداقيتها وانكشاف تبعيتها وارتهانها لدوائر ومؤسسات ومرجعيات هنا وهناك باتت في عهدتها، وباتت في خدمتها وخدمة استراتيجياتها أكثر من خدمتها ونضالها من أجل الشارع المنكوب المحتاج، وحتى أكثر من وفائها وولائها لدينها وعقيدتها، المتمثلة بدين الإسلام؟
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في ظل التحديات الاقتصادية، غالبًا ما تُعزى خسائر الشركات إلى عوامل اقتصادية وجيوسياسية وظروف سوقية قاهرة، بالإضافة إلى تحديات تنظيمية داخلية. لكن خلف تلك الأرقام والبيانات يكمن عامل آخر خفي وأكثر تأثيرًا سوء الإدارة (Mismanagement). هذا العامل، عندما يتفشى في بيئة عمل تسودها المحسوبية والمحاباة وتفتقر إلى الرقابة والمصداقية والحوكمة المستقلة النزيهة، يتحول إلى فيروس ينهش كيان المؤسسة ويقودها إلى نفق مظلم قد ينتهي بالانهيار الكامل. ومن خلال الاطلاع على نتائج إحدى الشركات الخليجية العاملة في قطاع الكيماويات للنصف الأول من عام 2025، يتضح أنها تمثل مثالًا حيًا ومريرًا على كيف يمكن لسوء الإدارة أن يقود مؤسسة ضخمة إلى خسائر فادحة وصلت إلى نحو 79% من رأسمالها، رغم أن رأسمالها يقارب المليار ريال. سوء الإدارة ليس مجرد هفوات أو أخطاء فردية، بل هو منظومة متكاملة من الفشل، تتجلى في سوء اختيار الكفاءات والقيادات، وغياب الرؤية والأهداف الاستراتيجية الواقعية، واتخاذ قرارات خاطئة دون آليات واضحة للمساءلة، وتكرار الأخطاء من دون الاعتراف بها أو تصحيحها. ورغم وجود عوامل خارجية تؤثر على الشركات، فإن هذه الحالة أظهرت بوضوح أن سوء الإدارة كان السبب الجوهري والمحرك الأساسي للأزمة، حتى اضطرت الشركة إلى مواجهة خيارين: إعلان الإفلاس أو انتظار تدخل الدولة لإنقاذها. الأزمة تفجرت نتيجة صفقات استحواذ أبرمها مجلس الإدارة السابق مع شركتين، شابها الكثير من علامات الاستفهام وشبهات التلاعب. تمت هذه الصفقات دون دراسات جدوى حقيقية وواقعية، وبقيم مالية مضخمة بشكل غير منطقي، وربما بدوافع مصالح شخصية،غياب الرقابة الفعّالة والتراخي في دور الجمعية العمومية سمحا بتمرير تلك الصفقات، فتكبدت الشركة خسائر جسيمة. كما أدى سوء الإدارة السابقة إلى تضخيم الأصول عبر إدراج بند “الشهرة” (Goodwill) بشكل مبالغ فيه، ومع تدهور أداء الشركات المستحوذ عليها اضطرت الإدارة الجديدة إلى شطب بند الشهرة بالكامل، وهو ما اعتُبر أمرًا نادر الحدوث وكان بمثابة اعتراف رسمي بأن الأموال المدفوعة لم تكن تساوي شيئًا، ما أدى إلى تراكم خسائر إضافية. هذه القرارات الخاطئة محَت نحو 79% من رأس المال، وألقت بظلال قاتمة على مستقبل المساهمين، من كبار المستثمرين وحتى صغارهم، فضلًا عن الموظفين والعملاء والموردين. وانتهت الأزمة بإقالات وتغييرات إدارية، أبرزها إنهاء عقد الرئيس التنفيذي والسعي لعزل أعضاء من المجلس السابق. إن هذه القصة هي جرس إنذار لكل الشركات، وخاصة في القطاع الخاص. فهي تؤكد أن النجاح لا يُبنى على حجم رأس المال أو كثرة الفرص الاستثمارية فقط، بل على حسن اختيار القيادات والكفاءات، وأن الحوكمة المستقلة والرقابة الصارمة والشفافية ليست ترفًا تنظيميًا، بل شرطًا أساسيًا للبقاء. والإدارة ليست مجرد مقعد يُشغَر بأشخاص، بل هي أحد أهم أسباب النجاح أو الفشل. لذلك، فإن أي خطة إنقاذ لأي شركة يجب أن تبدأ من إصلاح هياكل الإدارة أولًا، ثم إعادة بناء ثقافة مؤسسية قائمة على النزاهة والمساءلة والكفاءة. أخيرًا: التغيير ليس خيارًا، بل ضرورة للبقاء والنمو….“د. غازي القصيبي”
1458
| 01 سبتمبر 2025
التوطين أو التقطير ليس مجرد رقم أو نسبة أو شعار يوضع على الوظائف بأسماء قطرية، بل هو مشروع وطني استراتيجي شامل يهدف إلى بناء مستقبل مستقر ومزدهر للبلاد وأجيالها، تقوده الكفاءات الوطنية في مختلف مجالات الحياة والخدمات اليومية. إنها استراتيجية طموحة تؤمن بقدرات الشباب وتفتح أمامهم آفاق الإبداع الوظيفي في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص على وجه الخصوص. ولكي ينجح هذا المسار، لا بد أن يقوم على ركائز أساسية: “التخصصية” في اختيار الكوادر المناسبة لتلبية احتياجات سوق العمل، و“التدريب” الذي يصقل المواهب، و“التأهيل” الذي يرسخ الخبرات، و“التشجيع” الذي يعزز الثقة بالنفس، إضافة إلى “المتابعة والإرشاد” لضمان استمرارية الأداء وتحقيق الأهداف. فالمطلوب ليس فقط إعداد موظف ماهر، بل صناعة جيل قادر على المنافسة بما يمتلكه من مهارات عملية وفنية وإبداعية وقيادية، وحتى أخلاقية. ومع ذلك، ما زالت بعض المؤسسات، خصوصًا في القطاع الخاص، تعاني من ضعف في توظيف الكوادر الوطنية المؤهلة. التحدي الحقيقي لا يكمن في غياب الكفاءات، بل في ضعف البيئات الحاضنة ورفضها لاستيعاب هذه الطاقات. من هنا، يصبح من الضروري أن تستثمر الشركات في الكوادر الوطنية، وأن تجعل هدف التوطين من أولويات مجالس إدارتها، مع إلزام الرؤساء التنفيذيين بوضعه ضمن أهدافهم الاستراتيجية (Vision) ومنحهم الدعم الكافي لتحقيق هذا الهدف. ولا يقتصر التوطين على الموظفين فحسب؛ إذ شملت التشريعات الأخيرة إشراك المتقاعدين القطريين الأكفاء القادرين على العطاء، باعتبارهم رصيدًا وطنيًا لا يستهان به من الخبرات العملية. هؤلاء يشكلون قيمة مضافة للشركات، خصوصًا في القطاع الخاص، بما يقدمونه من استشارات وخبرات تراكمية تقلل من الحاجة إلى الخبراء الأجانب والمكاتب الاستشارية المكلفة. إنهم بمثابة عامل محفّز (Catalyst) قادر على تدريب الأجيال ونقل المعرفة دون أن يشكلوا عبئًا ماليًا إضافيًا على المؤسسات. وفي هذا السياق، جاء صدور القرار الأميري السامي رقم (27) لسنة 2025 بإنشاء جائزة قطر للتوطين في القطاع الخاص ليشكل دفعة إضافية ومحفزًا قويًا لتشجيع المؤسسات على تعزيز جهودها في استقطاب الكفاءات الوطنية، وإبراز دورها في دعم التنمية المستدامة من خلال التوطين الفعّال. وتبرز تجربة قطر للطاقة (QatarEnergy) كنموذج ملهم لنجاح عملية التوطين. فقد تمكنت، رغم الصعوبات في بداياتها منذ انطلاقة الخطة الوطنية لتقطير (Qatarization) في قطاع الطاقة والصناعة قبل أكثر من 24 عامًا، من بناء كادر وطني مؤهل على أعلى المستويات. لم تكتفِ باستقطاب الكوادر الوطنية وابتعاثها لأفضل الجامعات العالمية في التخصصات المطلوبة، بل تحولت إلى ما يشبه “جامعة” تخرّج القادة الأكفاء المتميزين بالالتزام والكفاءة. لقد أثبتت أن التوطين الفعّال لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة أو مكاتب استشارية باهظة، بل إلى رؤية واضحة، والتزام راسخ، وإيمان صادق بقدرات الشباب. ومن هنا أصبحت قطر للطاقة ليست مجرد شركة، بل في الحقيقة “مدرسة” لصناعة الكوادر الوطنية القادرة على قيادة المستقبل بثقة واقتدار. ويُسجَّل لوزير الطاقة أنه يترأس بنفسه جميع اجتماعات لجنة التقطير (التوطين) السنوية، ويشرف ويعتمد الخطة الاستراتيجية لقطاع الطاقة والصناعة للسنوات القادمة. وخلال هذه الاجتماعات يتم تكريم الشركات والمؤسسات التي حققت تقدمًا وتميزًا ملحوظًا في جهودها لعملية التقطير وفق معايير محددة، مما يعزز روح المنافسة الإيجابية بين المؤسسات ويحفزها على تطوير برامجها الوطنية. إن التوطين ليس سياسة حكومية فحسب، بل هو واجب وطني وديني ومسؤولية أخلاقية تقع على عاتق كل مسؤول. فالنجاح الحقيقي لا يُقاس بالأرقام والإحصاءات فقط، بل يُبنى على العلاقة الإنسانية بين المسؤول والموظف. علينا أن نتعامل مع الموظف القطري، خصوصًا الشاب الذي تنقصه الخبرة، لا كـ”مرؤوس” أو “منافس”، بل كـ”صديق” و”شريك”. عندما يُمنح الثقة ويُعامل بروح الدعم، تتفتح أمامه آفاق لا حدود لها. صحيح أن الأمر يتطلب وقتًا وصبرًا وجهدًا، وقد تصاحبه أخطاء، لكن تمامًا كما نتعامل مع أبنائنا، يجب أن نوجّه ونصحّح بروح من الحكمة والاحتواء. إن بناء الثقة هو الاستثمار الأهم. فعندما يثق الموظف بقائده ويشعر بالدعم والمساندة، يبذل أقصى جهده لتجاوز التحديات. وفي المقابل، يمكن أن ينهار هذا الجسر بكلمة عابرة أو موقف محبط واحد. لذلك، يُقاس نجاح المسؤول الحقيقي بقدرته على تحويل الموظف الشاب من موظف مبتدئ إلى “قائد محترف”. هذه العلاقة الإنسانية هي الركيزة الأساسية لبناء كوادر وطنية واثقة قادرة على قيادة المستقبل وتحقيق التنمية المستهدفه. وفي الختام، يظل السؤال مطروحًا: هل يمكن لتجربة “قطر للطاقة” الاستثنائية الناجحة أن تكون نموذجًا يُطبّق على نطاق واسع في جميع القطاعات ومؤسسات ووزارات الدولة؟ دمتم …. والسلام ختام
1194
| 02 سبتمبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه المتغيرات ويُعاد فيه تعريف المعرفة كل يوم، يطلّ علينا مشهد غريب في الساحة التدريبية وهو ظاهرة «مدرّب الشنطة» لم تعد مجرد انحراف فردي، بل تحوّلت إلى أزمة مهنية تهدد جوهر التدريب ومعناه. (مدرب الشنطة) هو ذلك الذي يظن أن دورة قصيرة في «إعداد المدربين» تكفي ليحمل لقب «خبير»، فيسارع إلى طباعة بطاقة عمل، ويفتتح حسابًا على وسائل التواصل، ويبدأ بجمع صورٍ على المنصات وإعادة تدوير المعلومات التي تلقاها معتقدا أن التدريب سلعة معلبة. والأدهى من ذلك، أننا نرى بعض الجهات الوطنية أو الجهات الرسمية تمنح الأفراد صلاحية وكأن المهنة مجرد رخصة قيادة يمكن شراؤها! هذا السلوك لا يُسيء إلى قيمة التدريب فقط، بل يشرعن دخول من لا يملكون هوية ولا خبرة إلى ساحة يفترض أن تُبنى على المعرفة والانضباط والرسالة. وهكذا يتحوّل التدريب – في بعض الأوساط – إلى تجارة مرخّصة، لا رسالة مسؤولة. وكما أننا نرى بعض الجهات المسؤولة عن التدريب ترخّص مدربين لمجرد وجود شهادة إعداد مدربين (TOT) ضمن سيرتهم الذاتية؛ وكأن هذه الورقة وحدها كافية لإثبات الكفاءة! هذا الخلل جعل الميدان يعجّ بمدربين لم يختبروا الممارسة العملية ولم يصيغوا يومًا محتوى، بينما يغيب أصحاب الخبرة الحقيقيون خلف بيروقراطية لا تعترف إلا بالورق. ففي بريطانيا مثلًا، لا يُمنح المدرب اعتمادًا مهنيًا إلا بعد إثبات قدرته على تصميم مناهج متكاملة، واختبار أدوات تقييم فعالة، وإثبات ممارسة فعلية في ميادين مختلفة. أما في كندا فإن المدرب يمر عبر تقييم دوري صارم يشمل أساليبه، وأثره على المتدربين ومقدار تحديثه لمعارفه. إن (مدرب الشنطة) لا يضر نفسه فقط، بل يسيء إلى سمعة المهنة بأكملها، فهو يربك المتدربين، ويفقدهم الثقة في قيمة التدريب. إن الهوية التدريبية ليست حقيبة تُشترى ولا شهادة تُعلّق على الجدار. الهوية هي فلسفة يتبناها المدرب، ورؤية يصوغها من خلال خبراته، ومسار طويل من التعلم المستمر. الهوية الحقيقية تعني أن المدرب يعرف أين يقف، وإلى أين يقود المتدربين، وكيف يُحدث الأثر في وعيهم وسلوكهم. اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تحتاج الساحة التدريبية إلى صوت ناقد يصرخ في وجه هذه الظاهرة: كفى عبثًا بمهنة نبيلة! على المؤسسات أن تضع معايير صارمة لاختيار المدربين وعلى المتدربين أن يسألوا أنفسهم: من الذي نقف أمامه؟ هل هو مدربٌ بهويةٍ ورؤية، أم مجرد «حامل حقيبة» يتنقّل بلا أثر؟. إن أخطر ما قد يصيب التدريب ليس قلة البرامج، بل كثرة المدربين بلا هوية، هؤلاء يملأون المقاعد، لكنهم يفرغون العقول، ويظل السؤال مفتوحًا: هل نرضى بأن يقود مستقبلنا مدربون يبيعون الوهم في حقائبهم، أم نطالب بهويةٍ أصيلة تجعل التدريب جسرًا حقيقيًا للتغيير؟. (يتبع في المقال القادم )
984
| 01 سبتمبر 2025