رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
انتشرت في الآونة الأخيرة في دولة قطر دعوة باطنية تعتمد السرية في نشر دعوتها وعدم الإفصاح عن افكارها وعقائدها، لا يمكنك الالتفات لها مبكرا، لأن بداياتها طبيعية جدا كأي دعوة دينية بلا شك تعتمد القرآن الكريم حفظا وتلاوة وتستميل الفتيات وفقا لذلك، ولكنها تستدرج اتباعها شيئا فشيئا الى البدع والضلالات، هذه الدعوة انشئت لها بعض الدور في قطر لم يتم التنبه لها او الوقوف أمامها ومن ثم انطلقت في الندوات الأخرى، فالحركة تستخدم معايير اجتماعية فتستميل قلوب الشخصيات ذات الثراء والمناصب والنفوذ والذكاء في المجتمع ليسهل انتشارها كـ "قوة ناعمة " دون جهد.
وهي حركة نسائية دينية تسمى "القبيسات" نسبة الى "منيرة القبيسي" مؤسستها، وهي سيدة سورية نشرت مذهب الصوفية على الطريقة النقشبندية — احدى طرق الصوفية — في سوريا، وتأسست لها جمعيات شتى منها "الطباعيات في الأردن، و"السحريّات" في لبنان و"بنات البيادر" في الكويت وانتشرت في العراق وفلسطين ودول الخليج امتدادا شيئا فشيئا، واستطعن انشاء الجمعيات الخيرية والمؤسسات التعليمية والتربوية وتحقيق انتشار واسع ولافت خصوصا في المدارس والجامعات.
ومن يسمين فيها الآنسات أو الشيخات او المريدات يمارسن هذه الدعوة في الخفاء ويظهرن ما لا يبطن اي يستخدمن عقيدة "التقية"، ولها عقائد وافكار وسلوكيات خاصة للإسلام.
إن ما يبعث على الريبة في مثل هذه الدعوة هو سريتها وانعزاليتها وانتقائيتها وانتشار ونشر عدد من البدع والضلالات من خلالها وسأوردها لتنبيه المجتمع لخطورتها العقدية على النحو التالي..
أولا- سريتها:
هو انك ايتها المرأة الأم أو الأخت أو ولية الأمر الناضجة عمرا، إذا اردت مرافقة بناتك أو اخواتك الصغار سنا الى ندوات هذه الدعوات التي انتشرت في قطر مؤخرا لا تستطعين مباشرة مثلها مثل اي ندوة دينية، بل لا يتأتي لك ذلك إلا بعد طلب موافقة الأستاذة الداعية التي تشترط ذلك. بل ان اي عضو جديد ايضا من الفتيات لا يمكنه الانخراط في الندوة الا بعد الاستئذان، وسيتبين لك ان تلك الاستاذة تنتمي الى شيخة اكبر في اتباع ومريدين، وما هؤلاء الآنسات الجدد في الدعوة الا ضحايا سالفات للمريدات وللشيخة الكبيرة.
وإننا جميعا نعجب: هل في حضور وليات الأمور مع صغيراتهم ندوات الذكر وحلقات القرآن استئذان؟ وما الذي يخفيه هذا التنظيم السري اذا كان حقا دعوة دين حق؟
السرّية تدخل التشكك في المنهج العقدي لهذه الدعوة التي تريد التسلل للمجتمع والدخول من النوافذ لا الأبواب.. خصوصا وأن القاعدة الشرعية في الدعوة تعتمد الوضوح والصراحة وفتح الأبواب ولنا في الندوات الدينية وخطب ودروس المساجد خير عبرة.
ثانيا- انتقائيتها:
ما يبعث الريبة ايضا الى جانب سرية ممارسة الدعوة، الانتقائية في فئة الجمهور، النساء جنسا والبنات والمراهقات من بنات الذوات والنفوذ والوجهاء والاعيان والتجار. ولعل البعض يعجب لماذ تستقطب الدعوة النساء جنسا بالتحديد؟
ولهم نجيب بما قاله الشاعر حافظ ابراهيم:
من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم أستاذ الأساتذة الألى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
أعني بإيراد هذه الأبيات، عظم دور الأم المنوط بها مستقبلا في اي موقف واي دعوة واي تربية،
ولأن المراهقة والفتاة الشابة الأداة الطيعة الآن والأسهل في التأثر، ستكون تباعا هي أم المستقبل التي يتتلمذ على يدها أجيال لن تتعب الدعوة في تتبعهم بعد تشربها وحذقها للدعوة، التي ستصبح لها ولابنائها، ذكورا وإناثا، اسلوب حياة وتربية وعقيدة ومنهجا، لذلك فهي لم تدعُ لها فردا بل صنعت لها في كل مجتمع مدارس مستقبلية لمصنع عقدي جديد "للتصوف" دون تعب بين الرجال والنساء.
البدع والضلالات:
يتخلل الدعوة عدد من البدع ومنها على سبيل المثال لا الحصر حيث لا يتسع لها مقال واحد:
— تتكرر في الأقوال وكتب الشيخات الاعتقاد بوحدة الوجود، وهي عقيدة صوفية فاسدة تعتقد ان الله والعالم شيء واحد، وأن لا فرق بين الخالق والمخلوق. وفي ذلك مؤلف اسمه: "المتاح في الموالد والأناشيد الملاح" يؤيد هذا الاعتقاد.
— تنتشر الصلاة النارية بأعداد خاصة وسرعة مذهلة وفي أوقات خاصة بقراءة ادعية خاصة في جلسات جماعية أو فردية لجلب مصلحة ما او دفع مضرة ما.
— تقديس الشيخة وعدم مناقشتها واعتبار امرها مطاعا، ورجوع الاستاذة المتبنيّة للدعوة في اي دولة وأي قطر لشيختها الكبيرة وتقديم طاعتها على طاعة الزوج او الأب او ولي الأمر. وقد بحثت في الانترنت فوجدت في المنتديات فضحا لبطلان هذه العقيدة وورود عدد كبير من الشكاوى من الازواج على تتبع زوجاتهم هذا التصرف وتسببهن في طلاقهم من زوجاتهم.
— المواظبة على اذكار معينة وصلوات محددة مبتدعة مثل صلاة التسابيح وصلاة الأوابين، وصلاة الظلمة.
— جلسة الإشراق وقراءة البقرة يوميا قراءة سريعة متمتمة دون تدبر.
— سجود الشكر الجماعي أو الختم الجماعي بنية معينة، والتسابيح الجماعية، مثل التسبيح سبعين الف مرة أو مسك السبحة والقلب في آن واحد واستحضار الشيخة الكبيرة عند ذلك حتى يمتد النور لهن منها مباشرة.
— إيراد عدد من الاحاديث بسند ضعيف او ليست هي بأحاديث وقراءة "الأوراد" وترديدها في اوقات معينة وبطريقة معينة، وهذه من لوازم الطرق الصوفية فلا طريقة بغير ورد تتميز به، لذلك شاع لديهم "الطريقة بأورادها" وهذا مخالف لما عليه الشرع واهل العلم الثقات.
— إيراد اوراد محددة بذاتها بعد الصلاة مثل "مالها من دون الله كاشفة" 100 مرة و"سلام قولا من رب رحيم" 100 مرة.
— التبرك بالاستاذة أو الآنسة والتقاتل على الشرب بعدها او تقبيل رأسها او الجلوس عند رجليها، وقراءة سورة البقرة بنيتها للآنسة.
— زيارة القبور وتقديس الأضرحة.
— الدعوة للطواف حول الكعبة 47 شوطا.
— كشف اسرار البيوت للمربية او الآنسة بحجة انها تساعد في اخذ يد الفتاة الى الله.
— التشكيك في السنة النبوية المحمدية واستخدام نعت الوهابية والاشارة بنعت كثير من مشايخ الأمة بها وكأنه سبّة.
— اعتمادهن على كتب مريبة أو مبتدعة مثل تداولهن كتاب يسمى "مزامير داود" وهذا الكتاب ليس عليه اسم من ألّفه؛ وإنما منيرة قبيسي وجماعتها لفقنه من مصادر شّتى وزدن فيه من عندهن مثل قولهنّ: "شيختنا معنا أينما كنّا لا تضيعنا" ؛ وليس عليه اسم مطبعة من المطابع، او الاستعانة بكتاب في افقه وطلب عدم كشفه على احد..
او كتبهن مثل "نجوم في فلك النبوة" للطباعيات وبه ما به من احاديث ضعيفة.
— تأليف أناشيد على نفس لحن الأغاني او اناشيد مع الطار ترنما بسيرة المصطفى.
إن هذه الحركة الغريبة على مجتمعنا والدعوة المضللة تستدعي التنبه لها من قبل اولياء الامور والمراكز التربوية والتعليمية ووزارة الاوقاف والجهات المعنية في الدولة.
وفي ذلك تجدر التوعية بأنه قد صدرت فيها فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ردا على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من مستفتٍ من الكويت والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (11 — 16) وتاريخ (18 /5 /1414).
وقد سأل المستفتي سؤالاً هذا نصه:
(بشأن جماعة من النساء في الكويت يقمن بنشر الدعوة الصوفية على الطريقة النقشبندية، وهن يعملن تحت إطار رسمي "جمعية نسائية" ولكنهن يمارسن هذه الدعوة في الخفاء ويظهرن ما لا يبطن. وقد حصل أن اطلعنا على كتاباتهن وبعض كتبهن واعتراف بعضهن ممن كن في هذا التنظيم. وذلك يتمثل بعضه بالآتي:
يقولون من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومن لم ينفعه أدب المربي لم ينفعه كتاب ولا سنة، ومن قال لشيخ لم، لم يفلح أبدا، ويقولون بالوصل بعملية الذكر الصوفي مستحضرين صورة شيختهن أثناء الذكر، ويقبلون يد شيختهن التي يطلقون عليها لقب الآنسة وهي من بلد عربي من خارج الجزيرة، ويتبركن بشرب ما تبقى في إنائها من الماء، ومن كتاباتهن لأدعية خاصة، وأني وجدتها بعد ذلك مقتبسة من كتاب اللؤلؤ والمرجان في تسخير ملوك الجان، ويقومون بتأسيس المدارس الخاصة بهن لاحتواء الأطفال على طريقتهن، ويعملن في مجال التدريس مما يعيطهن مجالا لنشر هذه الدعوة في صفوف بنات المدارس الحكومية المتوسطة والثانوية.
وقد فارقت بعض من هؤلاء النسوة أزواجهن وطلبوا الطلاق عن طريق المحاكم عندما أمرهن هؤلاء الأزواج بالابتعاد عن هذا الطريق الضال.
وكان السؤال:
- ما هو الحكم الشرعي في عقيدة هؤلاء النسوة مع إصرارهن على هذه الطريق؟
وبعد دراسة اللجنة له أجابت بهذه الفتوى المهم نشرها في المجتمعات الاسلامية:
"الطرق الصوفية، ومنها النقشبندية، كلها طرق مبتدعة مخالفة للكتاب والسنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحدثات الأمر، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
بل إن الطرق الصوفية لم تقتصر على كونها بدعة مع ما في البدعة من الضلال، ولكن داخلها كثير من الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في مشايخ الطرق والاستغاثة بهم من دون الله، واعتقاد أن لهم تصرفاً في الكون، وقبول أقوالهم من غير نظر فيها، وعرضها على الكتاب والسنة.
ومن ذلك ما ورد في السؤال من قولهم: من لا شيخ له فشيخه الشيطان. ومن لم ينفعه أدب المربي لم ينفعه كتاب ولا سنة، ومن قال لشيخ لم، لم يفلح أبدا.
وهذه كلها أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة، لأن الذي يقبل قوله مطلقاً بدون مناقشة ولا معارضة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقول الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
أما غيره من البشر مهما بلغ من العلم، فإنه لا يقبل قوله إلا إذا وافق الكتاب والسنة، ومن زعم أن أحداً تجب طاعته بعينه مطلقاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ارتد عن الإسلام، وذلك لقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون).
وقد فسر العلماء هذه الآية بأن معنى اتخاذهم أرباباً من دون الله:
طاعتهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، كما روى ذلك في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، فالواجب الحذر من الصوفية رجالاً ونساءً، ومن توليتهم التدريس والتربية، ودخولهم في الجمعيات النسائية وغيرها لئلا يفسدوا عقائد المسلمين.
والواجب على الرجل منع موليته من الدخول في تلك الجمعيات أو المدارس التي يتولاها الصوفية أو يدرسون فيها حفاظاً على عقائدهن، وحفاظاً على الأسر من التفكك وإفساد الزوجات على أزواجهن.
ومن اعتنق مذهب الصوفية فقد فارق أهل السنة والجماعة، وإذا اعتقد في شيوخ الصوفية أنهم يمنحون البركة، أو ينفعون أو يضرون فيما لا يقدر عليه إلا الله من شفاء الأمراض وجلب الأرزاق، ودفع الأضرار أو أنهم تجب طاعتهم في كل ما يقولون ولو خالفوا الكتاب والسنة، من اعتقد ذلك فقد أشرك بالله الشرك الأكبر المخرج من الملة".
وكانت عدد من الأستاذات في الجمعيات العلمية في كل من الدول التي انتشرت فيها سلفا قد نبهن الى مخاطر هذه الدعوات كما نبهت لها عدد من النساء اللاتي انخرطن فيها واكتشفن بعد فترة انها تحمل من البدع الكثير.
لذلك وجب التنويه في دولة قطر بخطورتها على الدين وعلى العقيدة المستقيمة وعلى الشباب وأهدافها في صرفهم عن الدين الحق ببدع وضلالات ما انزل الله بها من سلطان، وتعطيل ارادتهم وصرفهم ايضا عن علمهم وتنمية مجتمعاتهم بتسخير ولائهم للانسة أو الشيخة أو المريدة وتمييع ذات الله في ذات الانسة او الشيخة، وادخالهم في عالم البدع وربما تجاوزها الى الطلاسم والعياذ بالله كما ورد استخدام هذه الفئة لها في بعض الشهادات من قبل اخواتنا العربيات. فضلا عن تمييع مجتمع بأسره ستقوم تربية جيله القادم نساء ورجال على يد فتيات اليوم امهات المستقبل.
وفي ذلك فإننا نطالب وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية في الدولة بتكثيف دورها المنوط بها في تمحيص وتدقيق شأن الدعوة في قطر والقائمين عليها ورخصها وترخيص ممارسيها، خصوصا ونحن مجتمع يدين بالدين الحق دون شركيات او بدع او ضلالات، بل وضرورة تعرية وفضح البدع والضلالات وكشف زيفها للأجيال من خلال المنابر وسائر وسائل الدعوة والإعلام، ومنها الإعلام الجديد حتى لا تتسلل لهم خفية في عمامة مضللة.
هذا ومما يعمق ويثمن موقف دولتنا وشعبنا من الدين الحق هو احتضان دولة قطر اكبر جامع المسمى باسم الشيخ محمد بن عبدالوهاب إمام المنهج القائم على السنة النبوية الشريفة، ونسمع في مناراته افضل الخطب الدينية كل جمعة تلك البعيدة عن مناهج البدع والضلالات والتطرف، والتي يجب ان ينسحب منهجها المستقيم على سائر مراكز ادارة الدعوة في قطر، سواء كانت في مساجد رسمية او دور او مراكز دينية فهذه من الخطورة بمكان، بحيث يجب الا تقلد في يد من ليس له علم ديني أوفي يد من يشك في منهجيته وعقيدته، او من يستخدم اسلوب السرية والتخفي.
فضلا عن ضرورة تسجيل المراكز والدور رسميا في الوزارة، وأن لا يكون الثراء او الوجاهة او اي سبب اجتماعي اخر سببا في تزكية دار دون معرفة ما وراءها، فالتقوى والمنهج الديني الواضح الصريح القويم هو معيار الدعوة في المساجد والدور والمجالس وحتى البيوت.
هذا والدور الباقي علينا نحن في المؤسسات التربوية والتعليمية والأسرية، ومسؤولية كبرى تقع علينا نحن الأفراد آباء وامهات وفتيات، فما ينتشر في الخفاء يجب الإخبار عنه وتداوله في الاسرة لكشف زيفه من قبل الناضجين في حوار عائلي وتربوي شفاف، حتى لا يتسلل احد المريبين من اي دعوة من الدعوات او الحركات الضالة الى ابنائنا عبر النوافذ باسم الدين.
والله نسأل ان يحفظ ديننا وامانتنا في العالم قاطبة وان يحفظ لقطر دعوتها الحق الصريحة الواضحة، ويكفي الاسلام وابناءه شر الدعوات المضللة التي تسري في المجتمعات للفت في عقيدة الأمة وتفتيت لحمتها.
(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون)..
صدق الله العظيم.
كاتبة وإعلامية قطرية Twitter: @medad_alqalam medad_alqalam @ yahoo.com
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله في ميادين العمل القانوني، حيث بدأت العديد من مكاتب المحاماة في مختلف الدول تستعين بتطبيقاته. غير أن هذه الاستعانة قد تثير، في بعض الأحيان، إشكالات قانونية حول مدى الاستخدام المنضبط لهذه التقنيات، ولا سيما عند الاعتماد على مخرجاتها دون التحقق من صحتها ودقتها، وهو ما تجلى بوضوح في حكم حديث صادر عن محكمة قطر الدولية، حيث تصدت فيه المحكمة لهذه المسألة للمرة الأولى في نطاق قضائها. فقد صدر مؤخراً حكم عن الدائرة الابتدائية بالمحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال، (المعروفة رسمياً باسم محكمة قطر الدولية)، في القضية رقم: [2025] QIC (F) 57 بتاريخ 9 نوفمبر 2025، بشأن الاستخدام غير المنضبط وسوء توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في العمل القانوني. وقد ورد في حيثيات الحكم أن أحد المترافعين أمام المحكمة، وهو محامٍ يعمل لدى أحد مكاتب المحاماة المقيدة خارج دولة قطر، كما هو واضح في الحكم، قد استند في دفاعه إلى أحكام وسوابق قضائية نسبها إلى المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال. غير أن المحكمة، وبعد أن باشرت فحص المستندات والتحقق من الوقائع، تبين لها أن تلك السوابق لا وجود لها في سجلاتها الرسمية، ولم تصدر عن أي من دوائرها، وأن ما استند إليه المترافع إنما كان من مخرجات غير دقيقة صادرة عن أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المدمجة في أحد محركات البحث الإلكترونية المعروفة، والتي عرضت أحكاما وسوابق قضائية وهمية لا أصل لها في الواقع أو في القضاء.وقد بينت المحكمة في حيثيات حكمها أن السلوك الذي صدر عن المحامي، وإن بدا في ظاهره خطأ غير مقصود، إلا أنه في جوهره يرقى إلى السلوك العمدي لما انطوى عليه من تقديم معلومات غير صحيحة تمثل ازدراء للمحكمة. وقد أشارت المحكمة إلى أنه كان بوسع المحامي أن يتحقق من صحة السوابق والأحكام القضائية التي استند إليها لو أنه بذل العناية الواجبة والتزم بأدنى متطلبات التحقق المهني، لا سيما وأن جميع أحكام المحكمة متاحة ومتوفرة عبر موقعها الإلكتروني الرسمي. وانتهت المحكمة إلى أن ما صدر عن المحامي يُشكل مخالفة صريحة لأحكام المادة (35.2.5) من القواعد والإجراءات المتبعة أمام المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال لسنة 2025، والتي نصت على أن إعطاء معلومات خاطئة أو مضللة يُعد مخالفة تستوجب المساءلة والجزاء. كما أوضحت المحكمة أن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بوجه عام، في ميدان التقاضي هو أمر مرحب به لما يوفره من نفقات على أطراف الدعوى، ويُسهم في رفع كفاءة الأداء متى تم في إطاره المنضبط وتحت رقابة بشرية واعية. إذ إن الاعتماد عليه دون تحقق أو مراجعة دقيقة قد يفضي إلى نتائج غير محمودة. وقد أشارت المحكمة إلى أنها المرة الأولى التي يُستأنس فيها أمامها بأحكام منسوبة إليها لم تصدر عنها في الأصل، غير أنها أوضحت في الوقت ذاته أنّ مثل هذه الظاهرة قد ظهرت في عدد من الدول على خلفية التوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني. وفي هذا الإطار، أشارت المحكمة إلى ما قضت به محكمة بولاية نيويورك في قضية Mata v. Avianca Inc (2023)، إذ تبين أن أحد المحامين قدم مذكرات قانونية اشتملت على أحكام وسوابق مختلقة تولدت عن استخدام غير دقيق لتقنيات الذكاء الاصطناعي. كما أشارت المحكمة إلى حكم آخر صادر عن محكمة بالمملكة المتحدة في قضية Ayinde v. Haringey (2025)، والذي أكد على وجوب المراجعة البشرية الدقيقة لأي نص قانوني أو سابقة قضائية يُنتجها الذكاء الاصطناعي قبل الاستناد إليها أمام القضاء، باعتبار ذلك التزاماً مهنياً وأخلاقياً لا يجوز التهاون فيه.كما لفتت المحكمة إلى أن ظواهر مماثلة قد لوحظت في بعض القضايا المنظورة أمام المحاكم في كندا وأستراليا، ويُظهر ذلك اتساع نطاق هذه الظاهرة وضرورة إحاطتها بضوابط مهنية دقيقة تكفل صون نزاهة الممارسة القانونية واستقلالها. وقد بينت المحكمة أنها بصدد إصدار توجيه إجرائي يقضي بأن الاستناد والإشارة إلى أي قضية أو مرجع أمام المحكمة في المستقبل دون التحقق من صحته أو من مصدره يُعد مخالفة تستوجب الجزاء، وقد يمتد أثرها إلى إعلان اسم المحامي ومكتبه في قرار المحكمة. وفي تقديرنا، يُعد هذا التوجه خطوة تُعزز مبادئ الشفافية، وتُكرس الانضباط المهني، وتُسهم في ردع أي ممارسات قد تمس بنزاهة الإجراءات القضائية وسلامة العمل القانوني. وفي الختام، نرى أن حكم محكمة قطر الدولية يُشكل رسالة مفادها أن الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين، فإن أُحسن توظيفه كان عوناً في البحث والتحليل والاستدلال، أما إذا أُطلق دون رقابة أو وعي مهني، فقد يُقوض نزاهة التقاضي بين الخصوم ويُعد مساساً بمكانة المحكمة ووقارها.
2553
| 30 نوفمبر 2025
في كل يوم، ينظر الإنسان إلى ما ينقصه أكثر مما ينظر إلى ما يملكه. ينشغل الإنسان بأمنياته المؤجلة، وأحلامه البعيدة ينشغل بما ليس في يده، بينما يتجاهل أعظم ما منحه الله إياه وهي موهبته الخاصة. ومثلما سأل الله موسى عليه السلام: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾، فإن السؤال ذاته موجّه لكل إنسان اليوم ولكن بطريقة أخرى: ما هي موهبتك؟ وما عصاك التي بيدك؟ جوهر الفكرة ان لكل إنسان عصا. الفكرة الجوهرية لهذا المفهوم بسيطة وعميقة، لا يوجد شخص خُلق بلا قدرة وبلا موهبة وبلا شيء يتميز به، ولا يوجد إنسان وصل الدنيا فارغ اليدين. كل فرد يحمل (عصاه) الخاصة التي وهبه الله ليتكئ عليها، ويصنع بها أثره. المعلم يحمل معرفته. المثقف يحمل لغته. الطبيب يحمل علمه. الرياضي يحمل قوته. الفنان يحمل إبداعه. والأمثلة لا تنتهي ….. وحتى أبسط الناس يحملون حكمة، أو صبرًا، أو قدرة اجتماعية، أو مهارة عملية قد تغيّر حياة أشخاص آخرين. الموهبة ليست مجرد ميزة… إنها مسؤولية في عالم الإعلام الحديث، تُقدَّم المواهب غالبًا كوسيلة للشهرة أو الدخل المادي، لكن الحقيقة أن الموهبة قبل كل شيء أمانة ومسؤولية. الله لا يمنح إنسانًا قدرة إلا لسبب، ولا يضع في يدك عصا إلا لتفعل بها ما يليق بك وبها. والسؤال هنا: هل نستخدم مواهبنا لصناعة القيمة، وترك الأثر الجميل والمفيد أم نتركها مدفونة ؟ تشير الملاحظات المجتمعية إلى أن عددًا كبيرًا من الناس يهملون مواهبهم لعدة أسباب، وليس ذلك مجرد انطباع؛ فبحسب تقارير عالمية خلال عام 2023 فإن نحو 80% من الأشخاص لا يستخدمون مواهبهم الطبيعية في حياتهم أو أعمالهم، مما يعني أن أغلب البشر يعيشون دون أن يُفعّلوا العصا التي في أيديهم. ولعل أهم أسباب ذلك هو التقليل من قيمة الذات، ومقارنة النفس بالآخرين، والخوف من الفشل، وأحيانا عدم إدراك أن ما يملكه الشخص قد يكون مهمًا له ولغيره، بالإضافة إلى الاعتقاد الخاطئ بأن الموهبة يجب أن تكون شيئًا كبيرًا أو خارقًا. هذه الأسباب تحوّل العصا من أداة قوة… إلى مجرد منحوتة معلقة على جدار الديوان. إن الرسالة التي يقدمها هذا المقال بسيطة ومباشرة، استخدم موهبتك فيما يخدم الناس. ليس المطلوب أن تشق البحر، بل أن تشقّ طريقًا لنفسك أو لغيرك. ليس المطلوب أن تصنع معجزة، بل أن تصنع فارقًا. وما أكثر الفروق الصغيرة التي تُحدث أثرًا طويلًا، تعلُم وتعليم، أو دعم محتاج، خلق فكرة، مشاركة خبرة، حل مشكلة… كلها أعمال نبيلة تُجيب على السؤال الإلهي حين يُسأل الإنسان ماذا فعلت بما أعطيتك ومنحتك؟ عصاك لا تتركها تسقط، ولا تؤجل استخدامها. فقد تكون أنت سبب تغيير في حياة شخص لا تعرفه، وقد تكون موهبتك حلًّا لعُقدة لا يُحلّها أحد سواك. ارفع عصاك اليوم… فقد آن لموهبتك أن تعمل.
1515
| 02 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين برحيل معالي الأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن علي العقلا، أحد أشهر من تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والحق أنني ما رأيت أحدًا أجمعت القلوب على حبه في المدينة المنورة لتواضعه ودماثة أخلاقه، كما أجمعت على حب الفقيد الراحل، تغمده الله بواسع رحماته، وأسكنه روضات جناته، اللهم آمين. ولد الشيخ العقلا عليه الرحمة في مكة المكرمة عام 1378 في أسرة تميمية النسب، قصيمية الأصل، برز فيها عدد من الأجلاء الذين تولوا المناصب الرفيعة في المملكة العربية السعودية منذ تأسيس الدولة. وقد تولى الشيخ محمد بن علي نفسه عمادة كلية الشريعة بجامعة أم القرى، ثم تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1428، فكان مكتبه عامرا بالضيوف والمراجعين مفتوحًا للجميع وجواله بالمثل، وكان دأبه الرد على الرسائل في حال لم يتمكن من إجابة الاتصالات لأشغاله الكثيرة، ويشارك في الوقت نفسه جميع الناس في مناسباتهم أفراحهم وأتراحهم. خرجنا ونحن طلاب مع فضيلته في رحلة إلى بر المدينة مع إمام الحرم النبوي وقاضي المدينة العلامة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ وعميد كلية أصول الدين الشيخ عبد العزيز بن صالح الطويان ونائب رئيس الجامعة الشيخ أحمد كاتب وغيرهم، فكان رحمه الله آية في التواضع وهضم الذات وكسر البروتوكول حتى أذاب سائر الحواجز بين جميع المشاركين في تلك الرحلة. عرف رحمه الله بقضاء حوائج الناس مع ابتسامة لا تفارق محياه، وقد دخلت شخصيا مكتبه رحمه الله تعالى لحاجة ما، فاتصل مباشرة بالشخص المسؤول وطلب الإسراع في تخليص الأمر الخاص بي، فكان لذلك وقع طيب في نفسي وزملائي من حولي. ومن مآثره الحسان التي طالما تحدث بها طلاب الجامعة الإسلامية أن أحد طلاب الجامعة الإسلامية الأفارقة اتصل بالشيخ في منتصف الليل وطلب منه أن يتدخل لإدخال زوجته الحامل إلى المستشفى، وكانت في حال المخاض، فحضر الشيخ نفسه إليه ونقله وزوجته إلى المستشفى، وبذل جاهه في سبيل تيسير إدخال المرأة لتنال الرعاية اللازمة. شرفنا رحمه الله وأجزل مثوبته بالزيارة إلى قطر مع أهل بيته، وكانت زيارة كبيرة على القلب وتركت فينا أسنى الأثر، ودعونا فضيلته للمشاركة بمؤتمر دولي أقامته جامعة الزيتونة عندما كنت مبتعثًا من الدولة إليها لكتابة أطروحة الدكتوراه مع عضويتي بوحدة السنة والسيرة في الزيتونة، فكانت رسالته الصوتية وشكره أكبر داعم لنا، وشارك يومها من المملكة معالي وزير التعليم الأسبق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الوالد الشيخ عبدالله بن صالح العبيد بورقة علمية بعنوان «جهود المملكة العربية السعودية في خدمة السنة النبوية» ومعالي الوالد الشيخ قيس بن محمد آل الشيخ مبارك، العضو السابق بهيئة كبار العلماء في المملكة، وقد قرأنا عليه أثناء وجوده في تونس من كتاب الوقف في مختصر الشيخ خليل، واستفدنا من عقله وعلمه وأدبه. وخلال وجودنا بالمدينة أقيمت ندوة لصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن فيصل بن فهد آل سعود حضرها أمير المدينة يومها الأمير المحبوب عبد العزيز بن ماجد وعلماء المدينة وكبار مسؤوليها، وحينما حضرنا جعلني بعض المرافقين للشيخ العقلا بجوار المستشارين بالديوان الملكي، كما جعلوا الشيخ جاسم بن محمد الجابر بجوار أعضاء مجلس الشورى. وفي بعض الفصول الدراسية زاملنا ابنه الدكتور عقيل ابن الشيخ محمد بن علي العقلا فكان كأبيه في الأدب ودماثة الأخلاق والسعي في تلبية حاجات زملائه. ودعانا مرة معالي الشيخ العلامة سعد بن ناصر الشثري في الحرم المكي لتناول العشاء في مجلس الوجيه القطان بمكة، وتعرفنا يومها على رئيس هيئات مكة المكرمة الشيخ فراج بن علي العقلا، الأخ الأكبر للشيخ محمد، فكان سلام الناس عليه دليلا واضحا على منزلته في قلوبهم، وقد دعانا إلى زيارة مجلسه، جزاه الله خيرا. صادق العزاء وجميل السلوان نزجيها إلى أسرة الشيخ ومحبيه وطلابه وعموم أهلنا الكرام في المملكة العربية السعودية، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، اللهم تقبله في العلماء الأتقياء الأنقياء العاملين الصالحين من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
1197
| 04 ديسمبر 2025